حَواريون في ظل الصُنط:
في ردهات طويلة بعض الشئ تحيطها الجدران الاستعمارية الطراز و التي تكونت في حقب سالفة من ذكريات الشعوب السودانية ابان فترة الحكم الانجليزي المصري تشكلت أجنة المعرفة و الحياة الاجتماعية الحديثة وسط جموع الشبان أصحاب الملامح الزنجية و الالسن العربية ، وكثيرا ما تسألت كيف كان احساس أول طالب ؟ يجلس علي منضدة الرجل الابيض التي أتى بها من غابات افريقياوشكلها بحيث يعيد انتاج عقولهم لتستوعب منجزاته ، تلاميذ يحتشدون أمام رجال يتحدثون بلغة مختلفة فبدل أن كان آبائهم يتعلمون في ( رواكيب ) من قش يجلسون علي التراب الذي يعطن بالماء ليصبح باردا في فترات الظهيرة التي تلفح سمومها ألسنتهم التي تنطق بحروف عربية وآيات من القرآن وبعض الاعداد التي تساعدهم في عد جولات المحاصيل او منصرفات الحقول لتكون الخلاوى أو كما أسموها الكُتاب ابان فترة الحكم التركي المصري هي المؤسسة التعليمية السائدة في تلك الفترة ، و الخلاوي كما أشجار الصُنط التي تنبت في السّافنا الفقيرة ممتدة و متفرعة ولم يؤرخ أحد وجودها .
الا أن هناك مقولات تاريخية تشير الي انها ظهرت في "فترة حكم الشيخ عجيب المانجلك 1570 -1611" 1 وتقول رواية أخرى أن برشمبو هو الذي بدأ بوادر التعليم الديني عندما " قام بتحويل كنيسة دنقلا العجوز الى مسجد في مايو (1317م)، ولم يجد هذا التحويل اي نوع من المقاومة "2 وانتشرت الخلاوي في السودان التي تشبعت بريح مصر وثقافتها الدينية فكان المشايخ مالكييّ المذهب بجلابيب طويلة و عمامات ٍتشبه تلال الرمل في صحراء بيوضة لتكون هذه جذور المؤسسة الدينية في السودان ، ولم يجد المستعمر عناءاً في الحفاظ علي هذه المؤسسات فجذّرها داخل المجتمع وعمل علي بناءِها لمصحلته من أجل الاستفادة من كل الموارد البشرية وغيرها في السودان
.
و شهدت فترة الخديوي عباس باشا بناء أول مدرسة علي النسق الحديث وأطلق عليها مدرسة الخرطوم الابتدائية شرق ولكنها لم تستمر طويلا فقد تم اغلاقها . "في عهد الخديوي اسماعيل وبناءاً علي التقرير الذي كتبه رفاعة رافع الطهطاوي، علي مدي استعداد ورغبة السودانيين لتقبل التعليم وتطويرانفسهم ، عملت الحكومة المصرية ، بترغيب الذين درسوا بعض العلوم الاسلامية والعربية مثل: القران الكريم ،والحديث، والنحو، والصرف، والفقه، للانتساب إلى الجامع الازهر، لإكمال دراستهم فيه لمدة ثلاث سنوات حتي يتقنوا العلوم الدينية والعربية وتزداد ثقافتهم العربية ، ومن ثم يعودون الى السودان، ليكونوا هم حملة رسالة الثقافة الاسلامية والعربية، ودعاة لتقويم الدين ،وعكس كافة المناهج التي درسوها في مصر في مدارسهم ومساجدهم"3
نلاحظ ان بوادر الاثر المصري ظهر علي المتعلمين من أبناء المجتمعات السودانية والذين شكلهم التاريخ في هذه اللحظة ليرسمو ملامح مستقبل مبهم للذين أتو من بعدهم وهذا ما يمكن ان أسميه ( جذور الحداثة الاستعمارية ) فيد الاستعمار هي التي صاغت هذه الانوية للنظام التعليمي الحديث في تاريخ الدولة السودانية فظهرت المدينة بظهور النشاط الاقتصادي المرتبط بالتجارة الي تحولات جذرية في المجتمع .
لم تكن المهدية سوى ساحبة صيف أطلت فوق سماء ام درمان ثم غادرت دون أي ملامح سوى أسماء تمسكت بها أحياء البقعة كما يتمسك طفل صغير بثوب امه وسط الزحام ، ولكن ما يمكن قوله ان المهدية كما جُبتها المرقعة التي يرتديها الدراويش فلم تقوم بمعزل عن طريقة الحكم المركزية للاتراك بل عملت علي تكسير ما أنجزه الاتراك من مؤسسات ولأن الصوفية ورجال الازهر بينهم نوازع شر أوقف المهدي كل أنماط التعلم التي أتى بها الاتراك ، وجعل المسيد هي قبلة المتعلمين و فنارة يتوجه إليها طلابه وأعاد للصوفية كفتها ، الا أنه كان من جانب الاقتصاد كان امتدادا للتركية التي قام باسقاطها وهذا ما جعل بعض الاسر تحتفظ بمكانتها وامتيازاتها التي حصلت عليها من التركية وهم الذين استقطبهم المستعمر عبر التعليم وادراجهم في هيكلته الادارية .
قبعاتُ قش و أوجه نُحاسية اللّون :
بحنكة الرجل الابيض المتمرس في بناء المستعمرات و بعقلية اداتية عالية التصميم عمل مستر جيمس كيري الرجل البريطاني الذي عُين أول وزير للمعارف علي تصميم منهج يجعل من السودانين ذوات منفصلة عن مصر ولأنه كان يعلم أن الثقافة و الممارسة السياسية في شمال الوادي كانت مستفحلة وأن المصريين أكثر دراية و معرفة من هؤلاء الذين يسكنون في بيوت الطين و القصب وهم مجرد طفيليات نبتت علي ضفاف التركية ابناء تجار وصغار جامعي الضرائب و ابناء أمراء الانصار الدراويش" في هذه المرحلة عملت السلطات البرطانية في السودان لقطع الصلة بين السودانيين والتعليم المصري ، حيث ارسل مدير معارف السودان نائبه المستر كراو فوت علي رأس بعثه إلى مصر عام (1901م)؛ لجمع الطلبة السودانين - بالأزهر -ليكونوا نواة لطلبة كلية تدريب المعلمين والقضاة ، الى جانب تحويل جامع ام درمان الى معهد علمي علي قرار الجامع الازهر ، اضافة إلى تركها جنوب السودان لنشاط البعثات التبشيرية التي نجحت في صبغ الجنوب بصبغة ثقافية ودينية مغايرة لابناء الشمال"4. لذلك كان لابد من هذه القطيعة في النظام التعليمي بين مصر و السودان ، وهذا ماتم عندما دخلت جيوش الانجليز علي جماجم دراويش المهدي و سارت مراكبهم النيلية علي دماء الامراء و النقباء ، و سكة الحديد صممت " فلنكاتها " علي الايدي التي قطعت رأس غردون ، لذلك كان لابد من أن يظل غردون مذكورا في تاريخ هذه البلاد وتكون كلية غردون التذكارية هو أول صرح نبت علي فلوات الجهل السودانية كما كان يتصورها اللورد سالسبوري رئيس وزراء برطانيا آنذاك ليكون منبعا لفيالق الحركة الوطنية وشاهدا علي ميلاد رعيل صممت أدمغتهم بالطوب الاحمر المحروق داخل أفران الاستعمار بأوجه نحاسية بعد أن إلتحفها هجير الشمس و بقبعات القش التي كان يستخدمها الضباط الانجليز بدأت اليد الاستعمارية في اعادة صياغة الحياة الاجتماعية .
وبالرغم من ان بريطانيا سعت الي ان يكون التعليم منفصلا عن مصر الا انها لم تستطع أن تتخلي عن المعلمين المصريين فقد كان مستشاره الاول هدايت بك و الذي استعان بالاساتذة المصريين في تلك الكلية – غردون التذكارية - و المدارس التي أنشأت فيما بعد في تعليم السودانيين .
نلاحظ في هذه المرحلة التاريخية وجود تيارين من المتعلمين و أصحاب النفوذ و غيرهم من الذين يمكن تسميتهم (بالنخبة السودانية) في ذلك الوقت ، نوع : هم الذين ارتبطو بالتدين الشعبي و بالطرق الصفوية و زعماء القبائل وهم الذين كانو دوما قريبين من يد المستعمر لارتباط مصالحهم مع مصالحه ويمكن أن نطلق عليهم النخبة التقليدية وهذه النخبة وجدت نتيجية للظروف الاجتماعية و طبيعة العلاقات الاقتصادية الموجودة في تلك الفترة " ارتمت القيادات التقليدية في أحضان الاستعمار. ففي البداية ارتكز الاستعمار البريطاني-المصري على قادة طائفة الختمية لتوطيد نفوذه وحكمه. ومع نشوب الحرب العالمية الأولى وبتحول مصر إلى محمية وباشتعال الحركة الوطنية بها بدا أن استقلالها قريب، وبالتالي أصبح تقليص النفوذ المصري في السودان ضرورة للبريطانيين. فاتجهت بريطانيا إلى المهديين بصفتهم معادين لمصر وتركيا. واستخدمت بريطانيا سيد عبد الرحمن المهدي لتعبئة وتحريض المسلمين ضد تركيا. هرول المهدى على الفور لتأييد البريطانيين وحرض ضد الشبان الأتراك قادة (هيئة الاتحاد والترقي) بصفتهم كفرة وادعى أن مصلحة السودان مع بريطانيا. ووسع المهدى من مؤسسته الزراعية على جزيرة آبا التي كان يستخدم موسم حج أتباعه لها كمصدر للعمالة الرخيصة وكسب أموالاً طائلة. ثم سافر المهدي إلى لندن وقدم سيف المهدي كهدية إلى الملك جورج الخامس كتعبير عن الولاء"5
صَح يا كَنارُ :
بينما كان الباشا سعد زغلول بشاربه المتزن يضع طربوشه و بجاوره عبد العزيز فهمي و علي الشعراوي على طاولة واحدة مع المندوب السامي كان بعض الفتية في الخرطوم يحاولون بطريقة ما أن يكون لهم شأن في وضع اللبنات الأولى لحركة تعبر عن تفكيرهم ورؤيتهم التي بالتأكيد كانت تتأثر بثقافة وادي النيل فكانو ينظرون الي قضية التحرر أنها تجمع مصر و السودان معا ، ترى كيف كان تفكير علي عبد اللطيف ؟ وهو يجالس عبيد حاج الأمين كيف كان ينظر الي شوارع أم مدرمان ؟ ترى هل كان ينظر الي الموردة علي أنها الدُقي أم كانت العرضة تراوده علي أنها الجيزة ؟ كل ذلك بالتأكيد لا يقلل من مجهود اللواء الابيض ولا امتداداتها في مدن السودان مثل شندي و بورتسودان و عطبرة وهنا تظهر بذور حركة منفصلة عن الطابع الديني للمقاومة و تقوم علي أساس جديد متسم بروح الوطنية حتي وان كانت قاصرة لكنها تحمل مدلولات ذات طابع يساري مرتبط بالموظفين و الطلاب ولكنها مصابة بالضعف و الوهن لانها لم تصمد أمام المد الطائفي الذي كان يتمثل في الختمية و الانصار " رغم بداية الحركة الوطنية علمانية الطابع، إلا أن القيادات التقليدية الطائفية سرعان ما نجحت في استقطاب “الخريجين” .
وسقط المؤتمر فريسة للتناحر الطائفي بين الختمية وأنصار المهدى. فكون إسماعيل الأزهري حزب الأشقاء المرتبط بالختمية منادياً بالوحدة مع مصر في 1943، وفى المقابل أسس عبد الرحمن المهدى حزب الأمة المرتبط بطائفة الأنصار الذي عادى الوحدة وطالب بسودان مستقل عن مصر. طالب المؤتمر بتوسيع التعليم والفرص التجارية للسودانيين وتأميم مشروع الجزيرة. لم تجد الدعاية الوطنية أي صدى في الجنوب، فلم يهتم الوطنيون بمسألة تخلف الجنوب، ومنذ البداية طالبوا بأسلمته وتعريبه وعدم فصله إدارياً عن الشمال ليكون جزء من سودان موحد ومستقل. جاءت نهاية المؤتمر عام 1945 باكتساح الأشقاء/ الختمية لانتخاباته بدعم وتمويل مصري وانسحب الأنصار منه وبقى المؤتمر مجرد واجهة حتى دمجه في الحزب الوطني الاتحادي الذي أسسه الأزهري بالتحالف مع الختمية عام 1952"6 . ومن هنا يمكن القول أن النظرية السياسية في السودان أسست علي مبدأين : الأول التحالف من أجل الكسب فما قام به المثقفون بعد فشل ثورة 1924 في التحالف مع القوى الطائفية خير دليل علي ذلك " وبدأ السؤال يلح علي ذهن المتعلمين : كيف الوصول الي تلك الجماهير؟ ونبعت الاجابة عليه من خيبة الأمل التي مني بها المثقفون بعد هزيمة 1924 ، ومن رسوخ نفوذ القيادات الطائفية و القبلية ، ومن ضغط السياسة الاستعمارية ، ومن لهفة البرجوازية الصغيرة وتعجلها للنتائج وهي التي تصوغ ايدولوجية المجتمع . ومن كل هذه العوامل تشكلت الاجابة علي السؤال ، التي تمثلت في تطلع المتعلمين الي التعاون مع الطائفية ، باعتبار ذلك أقصر الطرق التي يمكنهم التوسل بها للجماهير " 7 .
اذن يمكن القول أن التيار الذي كان يتسم بروح الحداثة سقط في فخ القوى التقليدية فبدل أن يتوجه الي تأسيس قاعدة قوامها العمال و الطلاب و الطلبة الحربيين وغيرهم من البرجوازية الصغيرة ذاب في التيار التقليدي ومن هنا أسست الحداثة لأن تعيد انتاج القوى التقليدية بكل محمولاتها وهذا ماشهدت الديمقراطية التي قتلت بأيدي الطائفتين في عام 1958م عندما سلم عبد الله خليل الحكومة لعبود ، وعندما تم طرد الجزب الشيوعي من البرلمان أيضا . من خلال ما كشفته الاحداث يمكن القول أن نشأة التيار اليساري في السودان الحامل لقيم الحداثة و الديمقراطية و العلمانية قد بدأ عام 1924 م ومرورا بظهور مؤتمر الخريجين 1938 م الذي دخل والتحم مع الطائفية كما ذكرت سالفا وهو ما أسميه (التيار اليساري القديم ) . وهذا يعيدنا الي فهم هذه النخبة للدور الحديث الذي كانت تقوم به من خلال فهمها للحداثة وهذا يقود الي طبيعة التعليم نفسه وطبيعة الاستعمار الذي خلق هذه الحداثة داخل بنية تقليدية ولم يقم بحمايتها من هذه البنى فنجد اضراب 1931م الذي قاده طلاب كلية غردون قد تم اخماده عبر تدخلات من عبد الرحمن المهدي وهذا يكون أول تقول علي المؤسسة الجامعية الحديثة و أول ظهور بوادر اتجاهات سياسية للطائفة في السودان .
أما الذي يمكن أن نقول عليه أنه التيار اليساري الحديث ، ومصطلح حديث وقديم هذا لا يدخل ضمن التعاريف المفهومية للمصطلحين انما اشير عند استخدامهما الي المعنى الزماني للمصطلحين ، ونتيجة كل منهما فالقديم الساقط في فخ الطائفية قاد الي أن يظهر البنية التقليدية و الحديث عمل علي مستوى الطلاب و العمال وبسقوط التيار اليساري القديم ظهر الحديث كاشارة الي أن المجتمع يفرز قواه الاجتماعية ونجد ذلك في مقال عبد الخالق محجوب الذي نشر في صحف الخرطوم ردا علي بعض الدوائر التي نشرت بيانا مزيفا عن الشيوعية " فى نهاية الحرب العالمية ، عندما دب الوعى الوطنى فى أرجاء بلادنا ، انتظمت كغيرى من الطلبة المتحمسين فى غمار هذه الحركة يحدونى أمل ، هو المساهمة فى تخليص بلادى من نير الاستعمار .
تحدونى حالة الفقر والبؤس التى كان ومازال يحس يها المواطنون المتطلعون الى غد مشرق ، ملىء بالعزة والكرامة . وقد علقت الآمال حينذاك على زعماء حزب الأشقاء ، فى تحقيق تلك الأهداف التى آمنت بها . وهكذا وبمثل تلك الآمال العريضة ودعت وفد السودان (لمفاوضات الاستقلال) فى مارس 1946 ولكن هذه الآمال العراضة والأمانى الحلوة بدأت تتضاءل أمام ناظرى . فى القاهرة ، وبعيدا عن أعين السودانيين . دب التراخى فى بعض هؤلاء الزعماء ، واستسلموا لراحة الشخصية . وفى غمار هذا الواقع الجديد تناسى الزعماء ما قطعوه على أنفسهم من أن "قضيتنا لا يحلها الا الذين ودعونا فى الخرطوم ، واستقبلونا فى القاهرة ." تساءلت ضمن عدد من الشباب عن سر هذه التحولات التى طرأت على مواقف الزعماء ولا يدرى الشعب كنهها " 8
طُلَاب المَشّانِق :
ويرتبط ظهور الحركة الشيوعية في السودان بالطلاب ، فقدحهم المعلى في الاحتكاك بالمعارف و بالاحداث الاقليمية و الدولية اكبر واكثر التصاقا بها ، فزادت درجة الوعي لديهم و القدرة علي التنظيم و الحركة ، " فتدرب مجموعة من الطلبة السودانيين في مصر علي أسالايب العمل الجماهيري و السري في تلك المنظمات . ووفرت الحركة الشيوعية المصرية للمثقفين السودانيين الادب الماركسي و اليساري عامة . وتعلمت الحركة الشيوعية في السودان من أخطاء الحركة الشيوعية المصرية التي أدت الي تفشي الانقسامات بينها نتيجة انكفائها علي المناقشات بين حلقات المثقفين " 9
بالاضافة علي العوامل الخارجية التي اسهمت في نشوء التيار الماركسي هناك أيضا عوامل داخلية أسهمت في ظهوره من بينها "ظهور الحركة النقابية الوليدة وبين مزارعي الجزيرة. ولدت الحركة النقابية في يوليو 1946 بتأسيس “هيئة شئون العمال” التي كان في طليعتها عمال السكة الحديد. تأسست النقابة في عطبرة وليس هذا من قبيل الصدفة، فعطبرة مركز رئيسي لخطوط السكك الحديد السودانية، ومثّل العمال وعائلاتهم حوالي 90% من سكان المدينة البالغ عددهم 40000 نسمة، واتسمت المدينة بضعف العلاقات القبلية والطائفية. كان لعمال السكك الحديدية ثقل كبير في الاقتصاد السوداني والذي كان يعتمد بشدة على السكك الحديدية في نقل السلع والمنتجات والجنود والمواطنين ، وكذلك سع في نظام التعليم وأنشأت العديد من المدارس الثانوية بالإضافة إلى فرع لجامعة القاهرة، وأصبحت المدارس والجامعات مراكز للدعاية والتحريض ضد الاستعمار، ونجح الشيوعيون في اختراق اتحادات الطلبة "10
بعد الانتشار التعليمي الذي حدث في جميع انحاء السودان ، ومع ازدياد المدارس الثانوية و عدد من المدارس الفنية و المعاهد و كذلك النقابات و التي كان لها فيما سيأتي من أحداث .
الطُلاب طلائع نصر :
يمكن أن نقول ان دور الطلاب في ثورة 1964 كان دورا حركيا فقط بحيث أنها لم تقم بحماية الديمقراطية من تقول الاحزاب أو تتحكم في مسألة استمرارها ، ويحسب لها اهتمامها بمعالجة مشكلة الجنوب بصورة إجتماعية لتضع حلولا وسياسات طويلة الأمد ترمم العلاقة بين الشمال و الجنوب .
وما حدث في ندوة ( التقيم العلمي لمسألة الجنوب ) وما تلتها من أحداث ينعكس دور الطلاب بصورة واضحة في هذه النقطة بالتحديد ولكن ما كان يشكل اخفاقا هو الاليات التي لم توجد من أجل تنفيذ ما تم وضعه من حلول ومسألة الاليات هي المسألة التي ظلت تعاني من الحركة الطلابية اليسارية خصوصا في هذا الشأن ،
وبالرغم من الشمولية الا أن الطلاب قامو بشكل ما كل أنواع القيود ولكن النظام السياسي في تلك الفترة اول ما فعله من اجل تحطيم مؤسسة الجامعة هو تدمير إستقلالية الجامعات بحيث أصبح مدير الجامعة يتم تعيينه بصورة مباشرة من وزير المعارف وليست انتخابية من مجلس الاساتذة " أجبرت الهزائم المتتالية في الجنوب النظام على فتح الموضوع للنقاش أمام الرأي العام.
فاستغل الطلبة تلك الفرصة ونظموا اجتماعات في ساحات الجامعات لمناقشة القضية. سرعان ما تحولت النقاشات إلى تحريض ضد النظام، وبالرغم من تحرك النظام لمنع المناقشات قرر الطلبة استكمالها. في 21 أكتوبر 1964 تدخلت قوات الأمن لفض إحدى الاجتماعات. فاشتبك الطلبة الشيوعيون والإخوان المسلمون في صدام عنيف مع القوات التي قتلت طالباً وجرحت العديد. تحولت جنازة الطالب إلى مظاهرة مشتعلة قوامها 30000 شخص، ثم أنضم المهنيون للطلبة وأسسوا ‘جبهة الهيئات’.
وزادت حدة المظاهرات يواكبها زيادة حدة قمع الشرطة. وأسست الأحزاب الطائفية في المقابل ‘الجبهة الوطنية’ لتوازن قوى المهنيين. وأخيراً جاء تدخل النقابات العمالية تحت قيادة الحزب الشيوعي السوداني واشتعال إضراب عام في الخرطوم والمدن الرئيسية الأخرى بمثابة القشة التي قصمت ظهر بعير النظام العسكري. شل الإضراب العام الحياة تماماً في العاصمة التي تدفقت عليها أعداد غفيرة من المواطنين. وعجزت المؤسسة العسكرية عن التعامل مع الموقف، إذ تعاطف صغار الضباط مع المنتفضين ورفض الجنود الاستمرار في قمع الانتفاضة. وفى النهاية سقط نظام السفاح عبود وتسلمت جبهة الهيئات إدارة البلاد وتكونت الحكومة الجديدة في 26 أكتوبر"11
لم يواصل الطلاب حمايتهم لمكتسبات ثورتهم فاليسار الطلابي أصبح رهينا لابوية الحزب الشيوعي الذي ينتهج الديمقراطية المركزية ، وهو ما سبب في إختزال اليسار الطلاب وأصبح مجرد امتداد لطبيعة العمل السياسي الخارج بدلا أن يكون حركة اجتماعية نقدية .
و الاخفاق الاكبر الذي يمكن أن نقوله بشأن الحركة الطلابية اليسارية يكمن فيما حدث من سقوط لليسار عام 1969 حتى وان كان بشبهةٍ في فخ دعم الانقلاب العسكري علي الديمقراطية ، هذا الامر جعل من اليسار الطلابي تابعا وجعل من حركة الاخوان المسلمين تستغل الموقف لتبلور وضع جديدا سمح لها فيما بعد دخول العملية السياسية ولعب ادوار مهمة توجت بإنقلابهم علي الديمقراطية عام 1989م .
ذبذبات يسارية :
هنا تكون الدائرة قد اكتملت و رسمت ملامح واضحة لحركة الطلاب أو يمكن أن نقول ( الحركة الطلابية ) بتيارها اليساري و التي ستلعب دورا مهما في مسار التاريخ السياسي السوداني ، بجانب تيار اليمين الذي لم يكن تطوره بعيدا عن تطور اليسار في السودان فمصر أيضا شاركت في تحديد ملامحه المستقبلية ، ويمكن لنا أن نقول أن اليسار الطلابي : قد اعتكف علي ممارسة السياسة ولم توجد تيارات معرفية تؤسس للعمل الطلابي داخل الوسط الجامعي وهي صفة مستلفة من مصر وهنا مربط الفرس وهي أن اليسار الطلابي كان أداة في يد الاحزاب و الحراك وهذا الثقب الذي حدث صار مثل طبقة الاوزون يتسع كل مرة مع مرور الأحداث ليفقد اليسار الطلابي هويته والتي تتسم بالثورة ضد الظلم و القمع ولكن تستند في أساسها علي المقولات المعرفية و الثقافية ، وتتجه نحو ماهو سياسي بمناظير النقد ، وهو ما قامت عليه ثورات عديدة للطلاب علي رأسها ثورة ماي 1968 الفرنسية "حيث يعتبرها إغناسيو راموني أحد قادتها ومدير جريدة لوموند : " ثورة ثقافية بتعابير
سياسية " " 12
إن أردنا بحث جذور طبيعة هذه الازمة في الجامعة السودانية علينا أن نعود الي جذور فلسفة التعليم لدى الاستعمار فلاستعراض التاريخي للاحداث يوضح لنا ان الاستعمارين ( التركي – المصري و الانجليزي – المصري ) اتبعا منهجية في بناء النظم التعليمية و كان أكثرها تعقيدا عن الانجليزي الذي استند في إدارته علي بحوث انثربولوجية من اجل معرفة البنى الاجتماعية وطبيعة النشاط الاقتصادي و التصورات الاجتماعية و طبيعة علاقة السكان بالدين وأنماط التدين ، علي هذا الاساس قامت المؤسسات التعليمية من أجل القيام بدور أساسي ورئيسي في توظيف المجتمع من أجل خدمة المستعمر و يعتمد في هذا علي الفلسفة الوضعية و نموذج الحداثة الكلاسيكية التي تتخذ من الانسان موضوعا لها بمعني آخر ( السيطرة علي الانسان كجزء من الطبيعة ) وهذه هي البنية الاستعمارية للمناهج الاكاديمية .
وهذه النتيجة مؤكدة في واقع ما بعد الاستعمار و حتي يومنا هذا ، بحيث أن التقدم و التطور نحو الحداثة لم يكن شرط أوجده المجتمع بما يتوافق مع خصائصه بل كان شرطا مفروضا عليه من قبل قوى استعمارية شكلت وصممت وضعية اجتماعية معينة و محددة واوجدت طبقات اجتماعية مستفيدة من هذا الوضع لذلك يمكن لنا ان نقول أن الاستعمار عمل علي إنتاج نفسه بصورة جديدة من خلال المؤسسات الحديثة
وهنا يكمن التحالف بين التصورات الاجتماعية التقليدية و الحديثة فالثانية أوجدت فرصة للاولى من اجل اعادة تشكيل ظروف اقتصادية و سياسية واجتماعية تسمح لها بالبقاء و الاستمرار ، وهذه المؤسسات هي المؤسسات التعليمية ، فتعطلت روح النقد عند الطلاب و أصبحت الجامعات مجرد مصانع لاعداد الموظفين و الفنيين و كذلك السياسيين بعد الاستقلال
فحتى عندما ظهرت أركان النقاش و التنظيمات السياسية و العمل الطلابي في صورته عبر الجمهوريين في جامعة الخرطوم لم تتحول الى نوع من أنواع الحركة النقدية وهذا بالتأكيد انعكاس جراء السياسات التعليمية " كانت سياسات الحكومة الاستعمارية تبنى لتحقيق الهدف الاستعماري الذي هواستنزاف خيرات السودان المادية ممجعلها تهتم بمواد معينة من العلوم والدراسات دون الأخرى. فقد كان الإداريون يوجهون أن يتجنب البريطانيون تدريس السودانيين المواد التي تشجع فيهم التفكير وروح النقاش.
وكان فتحهم للمدرسة الصناعية وتشجيعهم الأعمال اليدوية ليس فقط بهدف إنشاء قطاع فني في السودان ولكن كما ظهر من تصريحات بعض الإداريين أن ذلك النوع من التعليم (التعليم الفني) لا يبعث فيهم روح النقاش والمجادلة بل يكون الفرد فيه متلقي أكثر من منتج وحتى عندما يمارس عملية التفكير فإنه يريد أن يصل إلى نتيجة معدة سلفًا. وإن كان هناك ابتكار فإن هذا الابتكار يكون بعيدًا عن مجال الحياة الاجتماعية بكونه يحدث في الطب أو الزراعة أو الصيدلة أو الأعمال الهندسية على العكس تمامًا من العلوم في مجال الحياة الاجتماعية المباشرة والتي تتناول السلطة والدولة وعلاقات الناس بهما مثل العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية الأخرى .
فإنها لا محالة تجعل من الفرد إنسانًا مثقفًا بالفعل وداعية إنسانيًا وناقدًا ومحللا سياسيًا ومفكرًا وفيلسوفًا اجتماعيًا. فهذه الخواص للعلوم الاجتماعية هي التي جعلت المستعمر لا يشجع هذا النوع من المناهج والمواد الدراسية. وعندما كانت تدرس فإنها كانت تدرس من قبل أساتذة بريطانيين وبالتالي فهم يعكسون فلسفة ووجهة النظر، إن لم تكن الاستعمارية، فإنها لن تتناول بالنقد والتقريح سياسات وأعمال المستعمر"13
أسلمة الجامعة :
بعد سقوط الديمقراطية الثالثة في السودان و استحوزت الجبهة الاسلامية علي الحكم عام 1989م ، بدأت في الاتجاه نحو الجامعات بسياسات مختلفة و ممنهجة ولانها تعلم أن مفاصل الحراك نحو الديمقراطية و الحرية هو الجامعات عملت علي تفكيك الاساس الذي تنطلق منه وهي المعرفة ، لذلك جاءت سياسات التعليم وفق لمخطط ظلت تلك اللحى تعمل علي حبكه ولانها أتت من نفس تلك السوح و القاعات الدراسية فإنها باتت تعرف مخبأ الثورة الكامن في عقول نيرة ومشرقة بروح العلم .
عملت السلطة الاسلامية علي تعريب المناهج الذي كان بداياته منذ أيام حكم الفريق عبود الا انه في هذه الفترة كان بصورة آيدولوجية متعمدة وذات نوازع سلطوية من أجل تغيير المجتمع واعادة رسم ملامحه علي أساس اسلامي بحت ، فانتشرت الجامعات مثل خلاوي الاباء الاوائل لتحول مباني اللمدارس الثانوية الي مجمعات جامعية وهي من التمظهرات الاولية لانهيار التعليم العالي في فترة التسعينات ، ليؤثر هذا المناخ علي مستويات عديدة اولها واهمها الانتاج المعرفي و تشكيل وجدان مفارق للطلاب وانهيار مناظير عديدة مما سبب انهيار للنظريات الحديثة و اليسارية .