حقائق التحرر الوطني الديمقراطي ، مقدمات في نقد اليسار ( 1 )
محمد احمد كرم الله
لطالما ظل التحرر الوطني الديمقراطي لحناً تغنت به الشعوب، أشعلت في سبيله الثورات و موجات المقاومة الباسلة في وجه الطغاة من المستعمريين و الدكتاتوريات الوطنية. في سبيل الحرية و عدل المجتمع و الدولة بين الناس، شحذت الطاقات في مختلف أنجاء العالم و جميع قاراته لتدون هذه الطاقات سفراً للمقاومة الشعبية عماده حركة الجماهير العفوية منها و المنظمة. حسبهم الإنقلاب على حلقات التاريخ الإنساني و أن يكون عهدهم فاتحة لتاريخ جديد ينتهي فيه إستغلال الإنسان لاخيه الإنسان. او أن ترفرف فيه رايات القوميات الكبرى و الإتحادات القارية كإعلان للإستقلال المجيد و غيرها من الغايات المختلفة. تحت هذا السقف من الطموحات و الاشواق التحررية و بمختلف المدارس كان ميلاد "اليسار" السياسي بمفهومه الكلاسيكي و همومه التي إستهدفت الإنتقال من الوضعيات البرجوازية و الاستعمارية السائدة و بناء مجتمعات الحرية حسب ما كانوا يأملون. شعارات اليسار لم تكن حجراً على البركة الساكنة في مياه النظم الاجتماعية و الاقتصادية و الفكر السياسي ،لم تكن صخراً. بل كانت نوعاً من الديناميد الذي تفجر في ميادين الفكر و السياسة. كانت الماء الحميم فأنجبت الحركات الشيوعية و القومية التقدمية بمختلف ما كانت تجود به المعارف على الواقع، او الايدلوجيا على الواقع في غالب الأحوال. و سطرت على مجلدات التاريخ عظيم التجارب السياسية و المخزية منها كذلك. على درب الهموم اليسارية الكبرى و ما أرادت أن تؤول اليه الإنسانية أجمعين، نرث اليوم تراثاً غنياً بالأسئلة و الإجابات،تساقط السواد الأعظم منها في جحيم التجارب و المختبرات اليومية، أي انه لم يعد يصلح لضخ الدماء على شرايين القضايا التي نافح باسمها اليسار ما يزيد على قرن من الزمان، لكنه كان و هو التجربة يدون الأخطاء إنطلاقاً من جذورها و هو ما قد يسعفه بالعودة يوماً كالمارد، لا يرتدي من الافكار السابقة الا تلك الروح و النزع القوية نحو الحرية و الحياة الكريمة للناس.
إنه و بالنظر الي عالم اليوم، اي عصر السيادة النيوليبرالية و الهيمنة التي تميل الي القطب الواحد متمثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية في مقدمة القوى الدولية و بإعتبارها رأس الرمح الذي لم يشترط أن تبدأ منه المعارك و لكن تنتهي دوماً عنده. و بالنظر الي موجة التغيرات العصرية الجديدة كذلك و هي : ثورة المعلومات ، و حالة العولمة و الإنفتاح الاقتصادي و الثقافي و السياسي و ما ترتب عليها وفقاً لوضعيات الهيمنة التي سبقت هذه الموجة رفقة التحولات الداخلية لحضارة العولمة نفسها. يمكننا السؤال عن طبيعة هذا العالم الجديد، و لماذا اختفت شعارات اليسار من على الخارطة السياسية و أنزواءه بعيداً ؟.. فقد شاء التاريخ و على الرغم من نُبل الشعارات و رنينها بأن يحكم على ( الايدلوجيا ) بالموت، موت حزين تباكت على طقوسه الملايين من المستضعفين في الأرض او هكذا كان يفترض بهم. فاليسار بإعتباره معبراً عن الطبقات الشعبية و الشعوب المضطهدة لم يخسر الرهان في جولاته السياسية و الدبلوماسية فحسب ،تعدت الفجيعة لتمد أيديها بعيداً نحو الاخلاقيات و مشروعية المشاريع التي بنى عليها اليسار من نفسه و نسفت مقدمات الفلسفة و الإستراتيجيات الاقتصادية لقوى التحرر الوطني، لم يبقى منه سوى البعض من أطياف البيان الشيوعي الهاربة من ويلات العمل اليومي. اي تلك الروح الثائرة المدفوعة للحياة من مواقع الحرية وحدها. حرية إنقلبت على نفسها في سياقات التاريخ السياسي لحركات اليسار، و إستحالت الي كونها ضرباً من أقفاص الحديد و شمولية تتسع بالاوطان لتصبح سجناً.
موت الايدلوجيا كان العنوان العريض لما ينبغي أن تكون عليه مجمل الحركات السياسية و ذلك سواء من حيث المقدمات النظرية او ما يتبعها من طرائق لفهم مجريات الاحداث و تبعاً لذلك إتخاذ برامج و أطورحات للتصدي لمشكلات الواقع العيني المعين، و يمكن القول إجمالا بأن النظرية السياسية للعصر قد إنتقلت بالفكر السياسي من خانة الايدلوجيا الي رحاب الفلسفة العملية، فالممكن و الأفضل عملياً يكون هو الخيار الصحيح غض النظر عن التجريدات الأولية التي يقوم عليها.
و يمكن القول بأن لليسار حقائق مشتركة تجمع ما بين طيف واسع من تكويناته السياسية و هي حقائق أثبتت حركة التاريخ بما لا يدع مجالاً للشك انها تقبع في وحل و مستنقعات الايدلوجيا، أبرزها ما يلي :
تعتبر الدولة من أحق الحقائق السياسية للقرن العشرين فهي المقدمة الأساسية في البناء الوطني الديمقراطي، بل يمكن القول بأن جميع المقدمات النظرية المتعالية على حقيقة الدولة سواء كانت هذه المقدمات ( أممية، قومية، دينية، او غيرها ) تعتبر ضرباً من التمركز حول الذات، تمركز بالقدر الذي لا تراعى فيه " الحقيقة المجردة " و هي بالتأكيد ليست نهائية و قاطعة و لا تتوزع بالتساوي ما بين القوى السياسية في البلد الواحد، لكنها في الوقت عينه لا يمكن أن تكون و بشكل حصري ملكاً لحزب سياسي واحد يتحدث بإسمها و عن الإجابات المتفرعة عن هذه الحقيقة دون مراعاة لحجم المشاركة الفعلية لبقية الأطراف الفاعلة سياسياً في بناء نموذج كلي للحقيقة، بل ولا يمكن أن يحدث مثل هذا اللقاء الا بين قوى سياسية تنطلق من الدولة كمقدمة أولى لا من مخططات و وصفات تحدد فيها الأدوار التاريخية لكل جماعة سياسية سلفاً. و مرد ذلك يعود إلى مغالطة فلسفية في الأساس ما فتئت تكوينات اليسار الكلاسيكي ترددها بفوضوية خصوصاً في إتجاهاته الشيوعية و بعض المدراس القومية التي تأثرت بها، و هي تررد بوجود قوانين بعينها للمجتمع و الطبيعة و الفكر الإنساني جميعاً، هذه القوانين هي بصورة او أخرى تضع مجموعة سياسية او أمة او طبقة إجتماعية في قلب التاريخ بإعتبارها صانعة و مسؤولة عن التغيير و المعبرة عن التقدم وحدها. و لما كانت الطبقات الاجتماعية و الأمم أشكالاً متعالية على الدولة، تصبح جميع القوى المعبرة عن هذه التكوينات متعالية معها و في سبيل مخططاتها للتاريخ. و بذلك تصبح الدكتاتورية و سلطة الحزب الواحد مبررة بإسم إرادة التاريخ و أحجيات التقدم. تستحيل عندها الممارسة النقدية الي كونها نوعاً من العمالة و الإرتزاق و هو ما يسهم بسرعة في ردة على الشعارات. ردة تجد أساسها النظري بين المقدمات النظرية لتنقلب على النبل، فالفعالية السياسية لبقية الأطراف الفاعلين تكون شبه معدومة خصوصاً في الجوانب النقدية و هو ما يعني عدم المقدرة على إعادة بناء النظام السياسي في حال التعرض للعواصف - و هي قادمة كما سنرى - و المتغيرات.
لا مجال للشك كذلك بأن الديمقراطية الليبرالية القائمة على التمثيل البرلماني هي الخيار الأمثل لعالم اليوم، في مقابل الاشكال ( الشعبية ، ديمقراطية المجالس الثورية، دكتاتورية البروليتاريا.. الخ) من الصيغ الكلاسيكية المتعارف عليها في أدبيات اليسار المختلفة. و يمكن القول بأن هذه الأفضلية ليست تعبيراً عن كونها ديمقراطية القطب المنتصر - الولايات المتحدة - بل على العكس تماماً، فقد كانت القوى المنتصرة في الحرب الباردة كذلك لأنها ضمن ما كانت عليه، ذات ديمقراطية ليبرالية راسخة بحيث يصبح الضغط السياسي في إتجاه الإصلاح و إحداث نقلات نوعية في بنية النظام الراسمالي ممكناً ،و هو عنصر نقدي مهم في البناء السياسي ليس له وجود في تلك الصيغ اليسارية الكلاسيكية. هذا بالإضافة إلى كون المؤسسات وليدة الديمقراطية الليبرالية قابلة للتعديل جذرياً بحيث تصبح ديمقراطية تعددية او توافقية او غيرها من الأشكال. و هو ما يعني إنفتاحاً واسع النطاق للفضاء العمومي و تحويلاً للدولة من كونها أداة للسلطة لكونها سلطة مفتوحة المشارب تتبنى نظاماً للحقيقة يعكس توازنات القوى ما بين الفاعليين السياسيين داخل مؤسساتها و خارجها. اي أن المجتمع المدني بمفهومه " الغرامشي" يصبح لاعباً اساسياً في نقد و تصويب العملية السياسية بالإضافة إلى كونه يمثل وجها مستقبلياً للسلطة.
لم تصل البشرية بعد الي نظام اجتماعي-اقتصادي يقدم حلاً نهائياً لمعادلة الحرية و الخبز. اي ان العلاقة ما بين الحريات الاقتصادية التي يمنحها النظام السياسي و معدل الرعاية الاجتماعية المقدمة في سبيل هذه الحريات قائمة على التوتر في الأساس، و هو توتر ضروري في ظل غياب "البديل" و مع ذلك نجده غير معترفاً به في النظم الرأسمالية المتوحشة و الاشتراكية على حد سواء. و هو أمر يعجل سريعاً بالإنقلاب على الشعارات بحيث يصبح الإعتداء على حريات المواطنين أمراً مبرر باسم العدالة الاجتماعية في النظم الاشتراكية بالقدر الذي تختلط فيه إرادة الحزب الاشتراكي مع إرادة الاشتراكية نفسها، و يصحب ذلك خلق مناخ ملائم لصعود الدكتاتورية و تنامي مستمر لبيوقراطية تعمل لمصالحها و تتمتع بصلاحيات واسعة تكون فيها هذه الصلاحيات بمثابة بذور أولية لتفشي الفساد و ما قد يترتب عليه من أزمات. و بالمقابل فإن النظم الرأسمالية و بإطلاقها العنان للحريات الاقتصادية إنما تجعل من القوى الاجتماعية فريسة سهلة لقوى السوق التي ستعمل حيثياً لتحويل الدولة بأكملها لمجرد أداة للتعبير عن مصالح الشركات و المؤسسات الاقتصادية الكبرى.