التحول التاريخي: تحليل عميق لتغيير موقف الصين من العملات المشفرة وتداعياته على النظام المالي العالمي
في تطور مفاجئ قد يعيد تشكيل خريطة العملات الرقمية عالمياً، عقدت لجنة شنغهاي لإشراف وإدارة الأصول المملوكة للدولة اجتماعاً هذا الأسبوع لمناقشة الاستجابات الاستراتيجية للعملات المستقرة والعملات الرقمية، في تحول ملحوظ في النبرة للصين التي تحظر تداول العملات المشفرة منذ عام 2021 [1]. هذا الاجتماع، الذي حضره ما بين 60-70 مسؤولاً حكومياً محلياً، يأتي في أعقاب دعوات من خبراء وشركات كبرى في الصين لتطوير عملة مستقرة مربوطة باليوان الصيني، مما يشير إلى إمكانية حدوث تغيير جذري في السياسة النقدية والتكنولوجية للقوة الاقتصادية الثانية في العالم.
السياق التاريخي والسياسي
من الحظر الشامل إلى إعادة النظر
منذ سبتمبر 2021، فرضت الصين حظراً شاملاً على تداول وتعدين العملات المشفرة، مبررة ذلك بمخاوف تتعلق باستقرار النظام المالي وحماية المستثمرين من المخاطر المضاربية [2]. هذا القرار أدى إلى هجرة جماعية لشركات تعدين البيتكوين من الصين، والتي كانت تسيطر على أكثر من 65% من قوة التعدين العالمية، إلى دول أخرى مثل الولايات المتحدة وكازاخستان وروسيا.
لكن التطورات الأخيرة تشير إلى أن الحكومة الصينية بدأت تدرك أن الحظر الشامل قد يكون له تداعيات سلبية على موقع الصين في النظام المالي العالمي المستقبلي. مع تزايد اعتماد الدول والشركات على العملات الرقمية، وخاصة العملات المستقرة المربوطة بالدولار الأمريكي، تخشى بكين من تعزيز الهيمنة الأمريكية على النظام المالي العالمي.
الدوافع الاستراتيجية للتغيير
التحول في الموقف الصيني لا يأتي من فراغ، بل يعكس حسابات استراتيجية معقدة تتعلق بالمنافسة الجيوسياسية مع الولايات المتحدة. مع تزايد استخدام العملات المستقرة المربوطة بالدولار في التجارة الدولية، تدرك الصين أن غيابها عن هذا المجال قد يعزز من قدرة أمريكا على فرض عقوبات اقتصادية وتقييد الوصول إلى النظام المالي العالمي [3].
هي تشينغ، مدير لجنة شنغهاي لإشراف وإدارة الأصول المملوكة للدولة، أكد في الاجتماع على ضرورة "زيادة الحساسية للتقنيات الناشئة وتعزيز البحث في العملات الرقمية" [1]. هذا التصريح يعكس إدراكاً متزايداً لأهمية التكنولوجيا المالية في تشكيل مستقبل النظام الاقتصادي العالمي.
التطورات الحديثة في القطاع الخاص
مبادرات الشركات الكبرى
تقود شركات التكنولوجيا والتجارة الإلكترونية الصينية الكبرى جهود الضغط لتغيير السياسة الحكومية تجاه العملات الرقمية. شركة JD.com، عملاق التجارة الإلكترونية، ومجموعة Ant Group، الذراع المالي لشركة علي بابا، تحثان البنك المركزي الصيني على ترخيص عملات مستقرة مربوطة باليوان لمواجهة النفوذ المتزايد للعملات المشفرة المربوطة بالدولار الأمريكي [1].
هذه الشركات تدرك أن العملات المستقرة توفر مزايا كبيرة في التجارة الدولية، حيث تتيح معاملات أسرع وأرخص مقارنة بالنظم المصرفية التقليدية. كما أنها تقلل من المخاطر المرتبطة بتقلبات أسعار الصرف، مما يجعلها أداة مثالية للتجارة الإلكترونية العابرة للحدود.
الاستراتيجية في هونغ كونغ
في خطوة استراتيجية ذكية، تخطط هذه الشركات للتقدم بطلبات للحصول على تراخيص العملات المستقرة في هونغ كونغ، حيث من المقرر أن تدخل تشريعات العملات المستقرة حيز التنفيذ في الأول من أغسطس [1]. هذا النهج يسمح للشركات الصينية بدخول سوق العملات المستقرة دون انتهاك القوانين الصينية الحالية، مع الاستفادة من الوضع الخاص لهونغ كونغ كمركز مالي دولي.
هونغ كونغ، بوضعها كمنطقة إدارية خاصة تتمتع بنظام "دولة واحدة، نظامان"، توفر منصة مثالية لتجريب السياسات الجديدة قبل تطبيقها في البر الرئيسي للصين. هذا النهج التدريجي يتماشى مع الطريقة التقليدية للصين في إدخال الإصلاحات الاقتصادية.
التحليل التقني والاقتصادي
مزايا العملات المستقرة
العملات المستقرة، التي تكون عادة مربوطة بعملة ورقية وتوفر معاملات أسرع وأرخص، اكتسبت زخماً كبيراً في جميع أنحاء العالم [1]. في الولايات المتحدة، حيث الإطار القانوني أكثر تطوراً، تنظر المزيد من الشركات مثل أمازون ووولمارت في إطلاق عملات مستقرة خاصة بها.
هذه المزايا تجعل العملات المستقرة أداة جذابة للتجارة الدولية والتحويلات المالية، خاصة في عصر التجارة الإلكترونية والاقتصاد الرقمي. السرعة في المعاملات، التي يمكن أن تتم في ثوانٍ معدودة بدلاً من أيام، والتكلفة المنخفضة مقارنة بالتحويلات المصرفية التقليدية، تجعل هذه التقنية ثورية في عالم المدفوعات.
التحديات التقنية والتنظيمية
رغم المزايا الواضحة، تواجه العملات المستقرة تحديات تقنية وتنظيمية معقدة. من الناحية التقنية، تتطلب هذه العملات بنية تحتية قوية لضمان الأمان والاستقرار، خاصة في ظل التهديدات السيبرانية المتزايدة. كما تحتاج إلى آليات شفافة لضمان أن كل وحدة من العملة المستقرة مدعومة فعلاً بأصول حقيقية.
من الناحية التنظيمية، تثير العملات المستقرة تساؤلات حول الرقابة المصرفية وسياسة النقد والاستقرار المالي. بان غونغ شنغ، محافظ البنك المركزي الصيني، أشار الشهر الماضي إلى أن الازدهار في العملات الرقمية والمستقرة يطرح تحديات هائلة للرقابة المالية [1].
التداعيات على النظام المالي العالمي
تحدي الهيمنة الأمريكية
إذا نجحت الصين في إطلاق عملة مستقرة مربوطة باليوان وحققت انتشاراً واسعاً، فإن ذلك قد يشكل تحدياً جدياً للهيمنة الأمريكية على النظام المالي العالمي. حالياً، تهيمن العملات المستقرة المربوطة بالدولار، مثل USDT وUSDC، على السوق بحصة تزيد عن 90% من إجمالي القيمة السوقية للعملات المستقرة [4].
عملة مستقرة صينية ناجحة قد تشجع الدول والشركات التي تتطلع لتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي على استخدامها في التجارة الثنائية مع الصين. هذا التطور قد يسرع من عملية "إزالة الدولرة" التي تسعى إليها العديد من الدول، خاصة تلك التي تواجه عقوبات أمريكية أو تخشى من تأثير السياسات النقدية الأمريكية على اقتصاداتها.
تأثير على البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى
التطورات في الصين تأتي في وقت تشهد فيه البيتكوين ارتفاعاً تاريخياً، حيث وصلت إلى مستوى قياسي قريب من 112,000 دولار هذا الأسبوع [1]. دخول الصين مجدداً إلى سوق العملات الرقمية، حتى لو كان بشكل محدود ومنظم، قد يوفر دفعة إضافية لهذا القطاع.
الصين، بحجم اقتصادها الضخم وعدد سكانها البالغ 1.4 مليار نسمة، تمثل سوقاً هائلة للعملات الرقمية. حتى لو اقتصر الأمر على العملات المستقرة المرخصة رسمياً، فإن ذلك قد يخلق طلباً كبيراً ويشجع الابتكار في هذا المجال.
التحليل الجيوسياسي
المنافسة مع الولايات المتحدة
التحرك الصيني نحو العملات المستقرة يجب أن يُفهم في سياق المنافسة الاستراتيجية الأوسع مع الولايات المتحدة. في عصر تتزايد فيه أهمية التكنولوجيا المالية والعملات الرقمية، تدرك الصين أن التخلف في هذا المجال قد يكلفها موقعها كقوة اقتصادية عالمية.
الولايات المتحدة، من جانبها، تعمل على تطوير دولار رقمي (CBDC) وتعزيز الإطار التنظيمي للعملات المستقرة لضمان استمرار هيمنة الدولار. هذا التنافس التكنولوجي-المالي قد يؤدي إلى سباق عالمي لتطوير أفضل الحلول في مجال العملات الرقمية.
تأثير على الدول النامية
الدول النامية، التي تعاني من أنظمة مصرفية ضعيفة وتكاليف تحويل عالية، قد تكون أكبر المستفيدين من انتشار العملات المستقرة. عملة مستقرة صينية قد توفر بديلاً جذاباً للدولار الأمريكي، خاصة للدول التي لها علاقات تجارية قوية مع الصين.
هذا التطور قد يعيد تشكيل التحالفات الاقتصادية العالمية، حيث قد تجد الدول نفسها مضطرة للاختيار بين النظم المالية الأمريكية والصينية. هذا الاختيار قد يكون له تداعيات سياسية واقتصادية بعيدة المدى.
التحديات والمخاطر
المقاومة الداخلية
رغم الإشارات الإيجابية من شنغهاي، لا يزال هناك مقاومة داخلية في الصين لفكرة السماح بالعملات المشفرة. المحافظون في الحكومة والبنك المركزي يخشون من المخاطر المرتبطة بهذه التقنيات، بما في ذلك إمكانية استخدامها في غسيل الأموال وتمويل الإرهاب والتهرب من الرقابة الحكومية.
كما أن هناك مخاوف من أن السماح بالعملات المستقرة قد يقوض فعالية السياسة النقدية الصينية ويقلل من قدرة الحكومة على السيطرة على التدفقات المالية. هذه المخاوف مبررة، خاصة في ظل النظام السياسي الصيني الذي يعطي أولوية عالية للسيطرة والاستقرار.
التحديات التقنية
تطوير عملة مستقرة ناجحة يتطلب خبرة تقنية عالية وبنية تحتية متطورة. الصين، رغم تقدمها في مجال التكنولوجيا المالية، تحتاج لتطوير أنظمة جديدة تضمن الأمان والشفافية والامتثال للمعايير الدولية.
كما أن التكامل مع الأنظمة المالية العالمية يطرح تحديات إضافية، خاصة في ظل العقوبات والقيود التي تفرضها الولايات المتحدة على بعض الكيانات الصينية. هذا قد يتطلب تطوير أنظمة بديلة أو إيجاد طرق للتحايل على هذه القيود.
الفرص والإمكانيات
الابتكار في التكنولوجيا المالية
دخول الصين مجدداً إلى سوق العملات الرقمية قد يحفز موجة جديدة من الابتكار في التكنولوجيا المالية. الشركات الصينية، المعروفة بقدرتها على الابتكار السريع والتطوير المكثف، قد تطور حلولاً جديدة تتفوق على ما هو متاح حالياً في السوق.
هذا الابتكار قد يشمل تطوير أنظمة دفع أكثر كفاءة، وحلول للهوية الرقمية، وأدوات للتمويل اللامركزي. هذه التطورات قد تفيد ليس فقط الصين، بل العالم كله، من خلال توفير بدائل أفضل وأرخص للخدمات المالية التقليدية.
التكامل مع مبادرة الحزام والطريق
عملة مستقرة صينية قد تلعب دوراً مهماً في مبادرة الحزام والطريق، المشروع الاستراتيجي الضخم للصين لربط آسيا وأفريقيا وأوروبا من خلال شبكة من البنية التحتية والتجارة. استخدام عملة رقمية موحدة في هذه المشاريع قد يسهل التجارة ويقلل التكاليف.
هذا التكامل قد يخلق شبكة اقتصادية ضخمة تستخدم العملة الصينية كوسيلة للتبادل، مما يعزز من موقع الصين كقوة اقتصادية عالمية ويقلل من الاعتماد على الدولار الأمريكي في التجارة الدولية.
التوقعات المستقبلية
السيناريوهات المحتملة
في السيناريو الأكثر تفاؤلاً، قد تنجح الصين في تطوير عملة مستقرة ناجحة تحقق انتشاراً واسعاً وتصبح بديلاً حقيقياً للعملات المستقرة المربوطة بالدولار. هذا قد يؤدي إلى تغيير جذري في النظام المالي العالمي ويعزز من موقع اليوان كعملة احتياطية دولية.
في السيناريو الأكثر تحفظاً، قد تواجه الصين صعوبات تقنية وتنظيمية تحد من نجاح مشروعها، أو قد تقرر الحكومة التراجع عن هذا التوجه إذا رأت أن المخاطر تفوق المنافع. في هذه الحالة، قد تقتصر التجربة على نطاق محدود في هونغ كونغ أو مناطق اقتصادية خاصة.
التأثير على الأسواق العالمية
بغض النظر عن النتيجة النهائية، فإن مجرد إعلان الصين عن اهتمامها بالعملات المستقرة قد يكون له تأثير كبير على الأسواق العالمية. قد نشهد زيادة في الاستثمار في شركات التكنولوجيا المالية الصينية، وارتفاعاً في أسعار العملات المشفرة، وتسارعاً في جهود الدول الأخرى لتطوير عملاتها الرقمية.
كما قد نشهد تغييرات في السياسات التنظيمية في دول أخرى، حيث قد تضطر الحكومات لإعادة النظر في مواقفها من العملات الرقمية لتجنب التخلف عن الركب في هذا المجال الحيوي.
الخلاصة والتوصيات
التحول في موقف الصين من العملات المشفرة يمثل نقطة تحول محتملة في تاريخ النظام المالي العالمي. هذا التطور، رغم كونه في مراحله الأولى، يحمل إمكانيات هائلة لإعادة تشكيل طريقة تعاملنا مع المال والتجارة الدولية.
النجاح في هذا المسعى يتطلب من الصين التوازن بين الابتكار والاستقرار، وبين الانفتاح على التقنيات الجديدة والحفاظ على السيطرة الحكومية. كما يتطلب تطوير إطار تنظيمي متطور يضمن الأمان والشفافية دون خنق الابتكار.
بالنسبة للدول الأخرى، هذا التطور يستدعي إعادة تقييم استراتيجياتها في مجال العملات الرقمية والتكنولوجيا المالية. الدول التي تتأخر في هذا المجال قد تجد نفسها في وضع غير مؤات في النظام المالي العالمي المستقبلي.
العالم يقف على أعتاب ثورة جديدة في النظام المالي، والصين، بحجمها الاقتصادي الضخم وقدراتها التكنولوجية المتقدمة، قد تلعب دوراً محورياً في تشكيل هذا المستقبل. التطورات في الأشهر القادمة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كان هذا التحول سيؤدي إلى نظام مالي عالمي أكثر تنوعاً وتنافسية، أم إلى صراع جديد بين القوى العظمى حول السيطرة على مستقبل المال.
المراجع
[1] Reuters. "In major shift, Shanghai regulator mulls policy responses to stablecoins and cryptocurrencies". https://www.reuters.com/business/retail-consumer/major-shift-shanghai-regulator-mulls-policy-responses-stablecoins-2025-07-11/
[2] الجزيرة نت. "تكنولوجيا - خبراء: الذكاء الاصطناعي يغير العالم أسرع مما يدركه معظم الناس". https://www.aljazeera.net/tech/
[3] الشرق للأخبار. "أخبار التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي - ماسك يكشف عن 'جروك 4' مع تسارع تطوير الذكاء الاصطناعي". https://asharq.com/technology/
[4] سكاي نيوز عربية. "أخبار العلوم والتكنولوجيا - التكنولوجيا في صور". https://www.skynewsarabia.com/technology
[5] التقنية بلا حدود. "سامسونج تطلق رسمياً Galaxy Z Flip7: قوة الذكاء الاصطناعي في جهاز بحجم الجيب". https://www.unlimit-tech.com/
[6] موقع نبض. "أخبار التكنولوجيا - قفزة جديدة في تشخيص الأورام.. نموذج ذكاء اصطناعي يكتشف السرطان بدقة تصل إلى 99%". https://nabd.com/category/17-dc0746/تكنولوجيا
[7] اقتصاد الشرق مع بلومبرغ. "آخر أخبار التكنولوجيا اليوم - 'تسلا' تدمج روبوت الذكاء الاصطناعي 'غروك' في سياراتها خلال أيام". https://asharqbusiness.com/technology/
[8] العربية. "أهم وآخر أخبار التكنولوجيا- الهواتف الذكية - 'سامسونغ' تنهي دعم تحديثات ثلاثة أجهزة الشهر الجاري". https://www.alarabiya.net/technology/smart-phones
[9] التكنولوجيا وأخبارها. "التكنولوجيا و أخبارها هى بوابة إلكترونية تهتم بأخبار تكنولوجيا المعلومات والإتصالات". https://eemirates.net/
[10] Times of India. "Latest Technology News and Daily Tech News Updates - AI slows down some experienced software developers, study finds".