مدخل أخلاقي لحل الازمة السياسية في السودان
مصعب حسين منصور " احرار "
ــــ
لماذا اخترنا أن يكون المدخل لحل الازمة السياسية في السودان مدخلاً " أخلاقياً " ؟ ألا يشيع في السياسة مبدأ المصلحة المادية المجردة ؟.
إننا نريد بهذا اولاً أن نحدد أن أصل الازمة السودانية هي أنها سياسية ثمّ أن جذور هذه الازمة السياسية ليس غياب الرؤية او التصوّر بل غياب " الأخلاق ".
وقد اخترنا أن يكون المدخل الأخلاقي هو أصل القضية لان الاخلاق هي جوهر الحضارات، فما انهارت حضارة إلا بغياب العنصر الأخلاقي من مكوناتها وما نهضت أخرى إلا بالحضور الأساسي للأخلاق في التكوين لتلك الحضارة الناهضة، فما هلكت الأمم إلا بهلاك أخلاقها وما فتح الله برحمته على الامم والشعوب إلا عندما صلحت فيها الأخلاق وارتقى فيها الواجب على المصلحة.
كان الاستاذ علي عزت بيجوفيتش يقول:" إن كل قوة في العالم تبدأ بثبات أخلاقي.. و كل هزيمة تبدأ بإنهيار أخلاقي"
الأخلاق المعنيّة في المقال:
١- من روح الانتهازية الى روح المعيارية:
لقد استحكمت في العقل السياسي السوداني والروح السياسية السودانية روح الانتهازية فاثبت لنا الواقع ان القوى السياسية السودانية تتاجر بالدماء، فهي تدفع الدماء من أجل المناصب السياسية والحِقب الوزارية ومجرد السلطة، فليس كل من يبذل الدماء يبذلها في سبيلٍ شريف او غايةٍ نبيلة فقد كان كبار الكّفار من قريش يبذلون دماءهم دفاعاً عن باطلهم ودفاعاً عن فتات الحياة الدنيا، وهكذا رأينا القوى السياسية السودانية بعد الثورة تدفع بالشباب الذي هو بحسن نية وقلّة في الخبرة السياسية تدفع به نحو المقاومة للمستبدين والظلمة ولكن للأسف يأتي هاؤلاء القادة السياسيين الذين يدفعون الشباب ليكونوا هم المستبدين الجدد والانتهازيون الجدد، فيستخدمون الشارع للتسلق الى السلطة من غير انتخاب في فترات الانتقال التي ينبغي ان يكون طابعها التوافق الشامل وتعجيل الشرعية الانتخابية، ولكن للاسف كانت الفترة الانتقالية مجرد تصفية حسابات بين القوى السياسية بدل الإجماع على مشروع وطني واحد ينقذ البلاد مما هي فيه من التخلف والتراجع.
إن هذه الروح إذا لم تغيب وتحل محلها روح المعيارية " معيارية الحق " وروح المسؤولية فلن تقوم للحياة السياسية قائمة في السودان. إن على الشباب السوداني الأصيل أن يتيقظ لدينه وقيمه وأخلاقه فيستقلّ بقراره وارادته ولا ينجر نحو هذه القيادات السياسية المتجردة عن الاخلاق إلا أن تغيّر من هذه المنهجيّة المنحطّة والقذرة. ثمّ لا يدفع دمه ولا جهده إلا في المعارك الشريفة الأصيلة.
إن الثورات يصيبها المرض كثيراً فالثورات ليس دائما نزيهة وليست دائما فعل اخلاقي، فمثلما يكون الفعل الاخلاقي فعل ثوري قد يتلبسه افعال كثيرة تفرغه من اي مضمون ثوري اخلاقي، فمثلاً استغلال غفلة الجماهير وجرها لمعركة تبدو اخلاقية ولكنها حتماً ذاهبة لنتيجة غير اخلاقية كاستغلال القيادات للجمهور كاوراق ضغط لتحقيق المكاسب والمناصب، يقول الاستاذ بيجوفيتش في كتابه الاسلام بين الشرق والغرب " لقد أثبت علم نفس الجماهير ، كما أكدت الخبرة ، أنه من الممكن التأثير على الناس من خلال التكرار المُلِحّ لإقناعهم بخرافات لا علاقة لها بالواقع".
٢- بين ملحمة القلب وملحمة العقل:
فالنتخذ النبي صلى الله عليه وسلّم قدوة في السيرة السياسية فإن فعلنا ذلك فاننا نرى فيه ذلك القائد العظيم الذي رسّخ لأصالة العمل السياسي الشريف، فكان لا يرضى بالظلم وكان يعفو عند المقدرة، لقد فتح النبي صلى الله عليه وسلّم مكة التي كانت مليئة بأعدائه الذين ظلموه وشردوه وكسروا رباعيته وقذفوه بالحجارة حتى ادميت قدماه، فتحها بعشرة آلاف مقاتل ثم عفا عن اهلها جميعاً فقال:" اذهبوا فانتم الطلقاء ".
فأين هذا المستوى من الرشد السياسي اليوم الذي يعفوا حتى عن الظلمة ؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلّم يدرك هذه القيمة العظيمة للعفو، هذه القيمة التي تهيئ المناخ لصلاح البيئة السياسية وتسد الباب في وجه الفتن وتفتح الطريق للشورى وإقامة القسط والعدل والإحسان والبركات.
إن كثيراً من القوى السياسية العميلة في وطننا تكره هذا الدين بما يحمله من هذه القيم وتريد أن تسلخ الشباب السوداني عن دينه وقيمه وأخلاقه وتزج به في معارك عبثية عدمية لا غاية لها لينسى هذا الرصيد العظيم من أصالة القيم والأخلاق التي لن تقوم لبلاد السودان قيامة من غيرها. فلا سودان بلا أخلاق ولا أخلاق بلا دين.
إن انتقال السودانيين من ملحمة القلب الى الجمع بين روح القلب والعقل هو امر من الأهمية بمكان وقد كتبت سابقاً إبان الثورة مباشرة مقالات عدة عن هذا الامر منها مقالين منشورين على موقع الجزيرة بعنوان " الثورة السودانية بين التسوية السياسية والحرب الاهلية " وآخر بعنوان " الثورة السودانية.. من ميدان العاطفة لميدان العقل السياسي ". بينت في هاذين المقالين معالم الانتقال الراشد ولكن جرت الامور على عكس ما اردناه ولكننا نؤمن أن الخير فيما يختاره الله ونعترف ان الله لا يغير ما فينا حتى نتغيّر نحن في قيمنا واخلاقنا وقد يكون من حكمة الله أن تجري سنته للإصلاح ليميز الخبيث من الطيب.
٣- من روح الكذب إلى روح الوضوح:
قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكونوا مَعَ الصّادِقينَ﴾ [التوبة: ١١٩]
لقد شهدت الساحة السياسية السودانية جبالاً من الكذب والمنافقة في المواقف والموازين والمعايير، فكانت القوى السياسية الفاعلة في الساحة تكذب على جمهور الشباب مستغلةً ضعف تكوينة وخبرته السياسية التي صنعها الاستبداد في الفترات السابقة، فهم دائماً يرسمون شعارات رنانة " كالحكم المدني " دون التعريف بماهية هذه الشعارات ومعانيها فالحكم المدني ليس مجرد أن يتسلق مجموعة من المدنيين للحكم دون شورى من عامة الشعب ودون اختيار إنتخابي نزيه، فإن كان المدنيون يعيبون الحكم المستبد فانهم يمارسونه بهذه الطريقة الخداعية التي ليس لها من المسؤولية أو الاخلاق نصيب.
إننا على يقين أن هذه البيئة المتعفنة غير صالحة للحياة السياسية مالم يتم تغييرها او استبدالها بشكل كامل فلا يمكن ممارسة الحياة السياسية بعيداً عن أي مبدأ اخلاقي كما يجري الان في ساحتنا السياسية في السودان. فالاولى على كل عاقل ان يعمل اولاً على تأسيس الاخلاق قبل تأسيس الدساتير والأطر الآلية التي تحكم العمل السياسي.
٤- أخلاقيات القوة :
في هذا المحور من محاور المقال حديثنا سيدور حول اخلاقيات القوة ونعني هنا بالتحديد القوات الامنية بكافة مؤسساتها فانها لا ينبغي ان تقتل الناس مهما كانت المبررات والمسوغات، كما أن ذلك من مفسدات الحياة السياسية ومفسدات الاخلاق. لقد تجردت القوات الامنية في كثير من الاحيان عن أخلاق الدين التي يتميز بها السودانيون، فان هذه القوات ينبغي أن تخضع وتتوب لله تعالى متجاوزة محدودية الحياة الدنيا والمصلحة المؤقتة المتمثلة في دنانير لن تنفعهم يوم لا ينفع مال ولا بنون.
إن كثيرون من رواد العمل السياسي قد يستغربون هذه اللغة التي نكتب بها هذا المقال، فهي لغة الفطرة وهم يستغربونها لانهم غرقوا في الماديات المفرطة وانسلخت أنفسهم عن ادنى البراءات الإنسانية، فقد ينتقد كثيرون هذه اللغة ويقولون " أنها لغة مثالية " ولكننا فعلاً بحاجة ماسة في واقعنا السياسي لهذه اللغة المثالية فهذا الواقع لا ينفع مع حله إلا هذا المدخل الاخلاقي الذي غاب كثيراً عن بيئة العمل السياسي.
يتحدث شاعر الاسلام وفيلسوفه محمد إقبال عن الروحانية اي " الاخلاقية " ويرى أن جوهر البناء السياسي لاي دولة راشدة تريد أن تخدم الانسان هو الاخلاق، فكل عمل سياسي لا يصب في صالح اطمئنان الانسان وتحقيق استقراره إنما هو عمل مصلحي غايته الاساسية اشباع مصالح الفاعلين السياسيين المادية البيولوجية دون مراعاة لاي اخلاق او قيمة. فيقول إقبال في كتابه - تجديد الفكر الديني : "والدولة في الإسلام هي (مجرد محاولة) لتحقيق الروحانية في بناء المجتمع الإنساني. وبهذا تكون كل دولة غير قائمة على مجرد السطوة، بل تستهدف تحقيق مبادئ مثالية، هي دولة ثيوقراطية".
فمبلغ غاية الدولة ليس البطش كما هو اليوم بل حفظ امن الناس وصون كرامتهم وحريتهم، وينبغي لهذه القضايا ان تحرر بدقة فلن تستقيم قائمة لهذه البلاد ولا لبلاد المسلمين من غير استعلاء الاخلاق في واقع الحياة العامة.
اخيراً : الحل الاخلاقي المطروح والمرغوب تحقيقه:
إن الحل الأخلاقي الأمثل للازمة السياسية في السودان بعد هذه المقدمات والمَحاور هو الحوار الشامل والتواضع بين كافة مكونات المجتمع السوداني، التواضع من اجل إقامة القيم وتجاوز المصلحة الذاتية الآنية، التواضع لمشروع وطني يجمع الجميع على أسس جامعة تؤسس قيم العفو والصفح ويلتقي فيها الظالمُ والمظلوم على تجاوز ما مضى والبدء في مرحلة تأسيسية جديدة يكون فيها التنافس الشريف في ميدان السياسة هو المهيمن وليس تصفية الحسابات والخصومات وزيادة الاحتقان. إن هذه الروح وسيادتها هي الباب الوحيد لحل ازمة السودان وإلا لن تبرح هذه الازمة مكانها. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.