كيف انتقلت الينا المعرفة في السودان ؟
حسان الناصر_ باحث بمعهد الدوحة للدراسات العليا - علم الإجتماع والانثربولوجيا
لكل نظرية او مفهوم سياق اجتماعي وتاريخي يتشكل من خلاله ، يساهم في هذا التشكل العديد من العمليات السابقة لظهور نظرية / مفهوم تعتمد على الضروريات الواقعية و الإشكالات الاجتماعية التي على أساسها تم توليد ضروريات نظرية تسمح بالظهور و تساهم هي الأخرى مستقبلا في انبثاق نظريات ومفاهيم أخرى تتشكل هي بطرائق مختلفة او مشابهة لها ولكنها في النهاية متأثرة بها حسب حدود إمكانية عمل هذه الأفكار / النظريات / المفاهيم الآنية .
في هذه المقالة السريعة أريد مناقشة إشكالية متعلقة بالواقع السوداني وتشكلات المعرفة و ارتباطها بالسياقات الاجتماعية في المجتمع السوداني ، فالمشاهد لواقع الحالة ، في الدولة السودانية بشكلها الحديث يرى ان الازمة ليست ذات طبيعة سياسية واقتصادية واجتماعية ، وانما لها جذورها المرتبطة مع طريقة فهمنا وتشريحنا لهذه المشكلات منذ تأسيس الدولة الوطنية (1955- 1956) وظهور مؤسسات حديثة ذات استقلالية كاملة (وان قلنا بشكل سطحي )عن الاستعمار ، فتشكل بذلك مجموعة من الانساق التي من خلالها أعاد السودانيون بناء تصورهم للواقع الاجتماعي ولشكل العلاقات الاجتماعية و النشاط الاقتصادي ولشكل السلطة و ممارستها و الوصول اليها ، كما انهم من خلال ذلك اعادوا تعريف هوياتهم المركبة و البسيطة فأصبح بذلك هناك واقع سوداني و مسار تاريخي لطبيعة الاحداث التي يمكن مشاهدتها من خلال سياق ما يسمى السودان .
يطرح كل مجتمع تناقضاته وإشكالياته عبر مؤسساته سواء السياسية او الاجتماعية او الإعلامية وتبرز على السطح في شكل أنشطة سينمائية او حراك سياسي او في صورة نظريات وأفكار ومؤسسات كذلك من خلالها يمكن فهم طبيعة هذه المشاكل ونشاهد طرق حلها او توليد متناقضات جديدة تأتي من خلال الوصول الى رؤية جديدة ، بطريقة ما تتأثر هذه العملية بمؤثرات عديدة وتأثر وتؤثر عليها لست معني بالتطرق لها هنا ولكن هي بالتأكيد يمكن مشاهدتها كعامل من العوامل التي يمكن وضعها في الحسبان وخصوصا اننا امام مستويات عديدة من التعقيدات في عصر اصبح التأثير فيه مبهم للجميع .
في ظل هذه التعقيد الذي بدأ مبكرا منذ صراع الحضارات و تشكل الدولة ونشوء الاستعمار أصبحت موازين القوى لا تعتمد على الواقع الفيزيائي المشاهد سواء كان بنشاط عسكري او تجارة ، وانما تخلقت أنماط جديدة من التأثير صحبت النقلة التكنولوجية التي اجتاحت العالم مع ظهور الانترنت ، وهذا ما يمكن قراءته من خلال حركة العمل السياسي / النشاط السياسي للحراك في السودان فمع ظهور الحركة الوطنية في ثلاثينيات القرن العشرين ، و التي خاضت تجربة ضد الاستعمار كان النشاط متأثرا حينها بالحركة الطلابية و انتقال الطلاب الى مصر من اجل التعليم التي كانت فيها المؤسسات السياسية الحديثة اكثر رسوخا وتمرسا مما تشكلت طرق على هذا الأساس نجد تأثرها بواقع الحركة السياسية المصرية .
على العكس تماما مثلا اذا قارنا شكل التأثر بالحراك السياسي الذي صاحب نشاط ثورة (ديسمبر 2018 ) نجد ان النشاط السياسي قد تغير بواقع عوامل عديدة ولكن اهم ما يميزه هو شكل التأثر بما حدث في الربيع العربي وخلال الثورة المصرية التي اشبه ما يكون الى انها اثرت على الحراك السياسي في السودان من خلال تكتيكات العمل و اليات التواصل الجماهيري وشكل الحراك عموما وان كانت هناك اختلافات جوهرية بين الثورتين الا أن اختلاف الشكل السياسي قد تغير بالنسبة للسودان وهذا مفهوم ضمن السياقات التاريخية و الاجتماعية وليس بالأمر الغريب .
ولكن الغريب الذي يدعو للتساؤل هو شكل المعرفة التي تم انتاجها و المؤسسات التي من خلالها يعبر السودانيون عن هذه التناقضات ، فإذا اعتمدنا على شكل المعارف و المؤسسات التي تنتج المعرفة نشاهد أن النموذج لهذه المؤسسات ما زال قابع في لحظة تاريخية تكاد تكون مفارقة للواقع الاجتماعي و السياسي ، فاللحظة التاريخية بالنسبة للمجتمع السوداني يتطلب نموذج معرفي متقدم يستوعب التناقضات المتراكمة منذ دخول السودان الى حقل كلية واحد يجمع شتات هذه المجتمعات والذي بدأ مع سقوط سنار في عام (1821م ) .
المشاهد للتاريخ يرى ان ما قبل لحظة سقوط سنار لم تكن هناك مؤسسات لإنتاج المعرفة بصورتها التي تسمح بتشكيل مخيلة جماعية مشتركة عبرها ترتبط مع نسق سلطة ،وانما كانت المعرفة متناثرة وذات طبيعة عشوائية سواء معرفة بتاريخ او سرديات للمجتمعات القبلية وهنا بالتأكيد لا اقلل من شأن هذه المعرفة او استبعدها عن التأثير ولكنها معرفة لم تكن ذات طبيعة كلية ، وانما متماهية مع نمط شكل البنى الاجتماعية حينها ، فسنار لم تكن سوى مملكة تحكمها اسرة واحدة داخلة في تحالف مع العبدلاب الذين كانوا مجموعة من التحالفات القبلية وكذلك هو الحال في ممالك دارفور و كردفان وتقلي و المسبعات .
وحتى الانقلاب الذي شهدت معه مؤسسات مثل السوق و شكل الحكم و المؤسسات الدينية لم يشهد تطورا في اشكال المعرفة التي شهدت ظهور مؤسسات تعليمية مرتبطة مع نمط التدين الاجتماعي الذي انتشر في مناطق مختلفة ويعود ظهور مؤسسات تعليمية دينية الى العام (1171م ) عندما حول المانجولوك العبدلابي كنيسة دنقلا العجوز الى خلوة يتم فيها تعليم القرآن ، في هذه اللحظة يمكن القول بان هناك مؤسسة تعليمة تعطي نوع من المعرفة لمجموعة من افراد المجتمع وفي ذات الوقت مرتبطة مع السلطة بشكل ما .
لا يمكن فصل تطور المؤسسات الاقتصادية (السوق ) و السلطوية عن شكل تطور المؤسسات التعليمية ،فبشكل ما التطور الذي شهده نظام الحكم في سنار بالإضافة الى توسع الطرق التجارية مع بقية العالم سمح لمجموعة مشائخ الطرق الصوفية بالتوسع في القاعدة الاجتماعية في المجتمع السناري ، فمع طرق الحج التي كانت طرق تجارية وفد العديد من المشائخ واستقروا في انحاء متفرقة من سنار بالإضافة الى ذلك وفرت لهم السلطة نوع من الامتيازات التي من خلالها تطور مؤسسة المسيد كمؤسسة ذات ثقل تعليمي واجتماعي ونالت قدر من الوضع الذي سمح لها بان تكون ذات تأثير واسع في حركة التاريخ وخصوصا الانتشار الواسع لها في افريقيا او شمالا في مصر .
بالتأكيد لعبت مصر دورا مهما في حركة المعرفة وتأثيرها داخل السودان ، بداية بالرواق السناري و الذي اظنه له تأثير كبير جدا فيما بعد مع دخول الحكم التركي ، ورواق السنارية او الرواق السناري هو جزء من أروقة الازهر الذي بناه سلطان سنار من أجل استضافة الطلاب الوافدين من سنار في مؤسسة الازهر ويستضيف الرواق مجموعة من طلاب غرب افريقيا أيضا ،ويظهر هنا شكل علاقات السلطنة السنارية مع غرب افريقيا بجانب طرق التجارة و الحج كذلك .
ظل الرواق السناري جزء من المساهمة التي توفرها المؤسسات التعليمية المصرية حتى دخول محمد علي باشا وسقوط سنار الامر الذي احدث انقلابا في شكل المؤسسات سواء السوق او السلطة السياسية او التعليمية أيضا ، فهذه المرحلة اعادت تشكيل السودان الحديث ومؤسساته كذلك ، فحركة التحديث التي قادها محمد علي في السودان كانت مهتمة ببعض الجوانب الا انها اثرت على جوانب أخرى أيضا .
قد تكون التركية من اهم اللحظات التاريخية في السياق السوداني ، وبالتأكيد هناك جدل واسع في تسمية التركية ، لان هناك سؤال يبرز بصورة كبيرة ،هل كان محمد على باشا جزء من سياقات التركية وجزء من نمط استعمارها ، أم هو استخدم التركية كغطاء لتحقيق أغراض معينة ولعب لعبة سياسية جعلته يحلم بإبراطورية خاصة في مصر و السودان ؟ ولكن معظم المؤرخين في السودان جعلوه جزء من سياقات الاستعمار التركي .
حاول محمد على الاستفادة من الإمكانيات المتوفرة في الأراضي السودانية سواء بجانب الاقتصاد او الموارد البشرية ، لذلك لم نجد تحديث في السودان على النمط المصري بكل كان تحديث من اجل أغراض محددة عبرها بدأ نمط التعليم وشكل المؤسسات التعليمية الحديثة ، على نهج الرواق السناري بدا ارسال الطلاب في مصر بالرغم من ان المصريين كانوا يرسلون الى اوربا من أجل التعليم ، ونشاهد هذه الاختلافات الواضحة في المستويات التعليمية والفوارق التي خلقها الاستعمار التركي في فتح مسارات المعرفة للسودانيين فقد حجزهم في افق التابع للنمط المصري ، وهو ما قام به رفاعة الطهطاوي عام 1853م عندما أسس مدرسة الخرطوم الحديثة ، والتي كانت من اجل تعليم (اللغة العربية ، الحساب ، القراءة ، الكتابة ) .
من هنا يمكن النظر الى حالة التعليم البدأت في السودان بالرغم من النهضة التي كانت تشهدها مصر في الجانب الحداثي وحركة التحديث الا انها ظلت جنوبا في السودان ضئيلة و هشة ، حتى ان المدرسة هذه لم تكن مدرسة لكل العامة بل كانت لابناء زعماء القبائل في دنقلا وكسلا ، أولئك الذين بمقدورهم الاستغناء عن ابناءهم لكن هناك فائض انتاج يمكنهم من تحمل أعباء الدراسة و الانفاق عليهم بالإضافة الى المكانة الاجتماعية التي كان يخلقها التعليم لهم ، فهؤلاء هم نواة العلاقة بين الحكم التركي و المجتمع السوداني .
حتى ما بين عامي (1863 -1879) بافتتاح مدارس في أقاليم مثل الشرق و سنار و بربر ودنقلا وكردفان عندما بدات حركة التعليم في نشاط وازدياد ظلت هناك فئات بعيدة عن دوائر التعليم ، الا ان الانقلاب الذي حدث في عهد الخديوي توفيق والذي على أساسه بدا نمط التعليم في التغيير بحيث نشأت المدارس الفنية و مدارس الطب و الصيدلة وكذلك بدات الارساليات التبشيرية في الانتشار داخل السودان .
من الملاحظ ان تطور التعليم كان وفق الاحتياجات التي فرضتها الإرادة التركية ، بل حتى شكل الهيكل الإداري للتعليم كان يتبع الى مصر ذلك يمكن ان نقول بان النظام التعليمي كان منفصلا عن المجتمع وعن تناقضاته التي تشكلت وفق السياق الاستعماري كما انها كانت بداية لتشكل الانفصال ما بين البنى الحديثة وما بين الجذور التي يستند اليها المجتمع في منطلقاته وقناعته وتصوراته للعالم و لذاته وان كانت هذه بداية التصدع الذي تولد عنه اخفاق لاحق لهذه المؤسسات في بناء معرفة ترتبط مع بنية المجتمع ، وهو ما أدى الى افراز لنخبة حديثة هشة و ضعيفة ولطالما كانت تابعة للبنية التقليدية من طوائف وزعامات قبلية .
حتى في المهدية التي اعادت الاعتبار الى التعليم الديني الا ان سرعان ما تلاشى ذلك بزولها ، فلم تطور أي نمط لتعليم بل ان المهدية لم تكن في تكوينها الأساسي يسمح لها ببناء تصور لاي نسق معرفي سوداني كما كانت هي حركة تحرر وطني ضد الاستعمار و التداخل ما بين التراتب الصوفي الذي يقوم على أساس مكانة المتعلم وأخذ الطريق جعل من بنيتها السلطوية لا تسمح بأفق أوسع من ذلك ، مما جعل منها اقرب الى ان تكون حركة صوفية دينية لا ابعد من ذلك ولا اكثر ، وقد اتحامل على المهدية بعض الشئ في نقدي لبنيتها ولطبيعة حركتها التي لم تكن ترتبط بتصور دنيوي أبعد من كونه ديني خالص ويظهر ذلك في طبيعة الجيش وشكل الإدارة و الى طبيعة علاقتها التجارية والنشاط الاقتصادي الذي أدى الى تفككها من الداخل بسبب أزمات الجفاف و التصحر ، وان كانت المهدية في نظري هي الإرث المقاوم ضد حركة الاستعمار الا ان جوانب القصور فيها لا يسعنا الا كشفها ليس بغرض نقدها وفق السياق الحديث الذي نعيشه ولكن وفق حركة التاريخ و السياق الاجتماعي كإرث يجب العودة اليه وبناء أفق من خلاله بعيدا عن التشوهات التي نعيشها حاليا في كل نواحي المجتمع .
لكل نظرية او مفهوم سياق اجتماعي وتاريخي يتشكل من خلاله ، يساهم في هذا التشكل العديد من العمليات السابقة لظهور نظرية / مفهوم تعتمد على الضروريات الواقعية و الإشكالات الاجتماعية التي على أساسها تم توليد ضروريات نظرية تسمح بالظهور و تساهم هي الأخرى مستقبلا في انبثاق نظريات ومفاهيم أخرى تتشكل هي بطرائق مختلفة او مشابهة لها ولكنها في النهاية متأثرة بها حسب حدود إمكانية عمل هذه الأفكار / النظريات / المفاهيم الآنية .
في هذه المقالة السريعة أريد مناقشة إشكالية متعلقة بالواقع السوداني وتشكلات المعرفة و ارتباطها بالسياقات الاجتماعية في المجتمع السوداني ، فالمشاهد لواقع الحالة ، في الدولة السودانية بشكلها الحديث يرى ان الازمة ليست ذات طبيعة سياسية واقتصادية واجتماعية ، وانما لها جذورها المرتبطة مع طريقة فهمنا وتشريحنا لهذه المشكلات منذ تأسيس الدولة الوطنية (1955- 1956) وظهور مؤسسات حديثة ذات استقلالية كاملة (وان قلنا بشكل سطحي )عن الاستعمار ، فتشكل بذلك مجموعة من الانساق التي من خلالها أعاد السودانيون بناء تصورهم للواقع الاجتماعي ولشكل العلاقات الاجتماعية و النشاط الاقتصادي ولشكل السلطة و ممارستها و الوصول اليها ، كما انهم من خلال ذلك اعادوا تعريف هوياتهم المركبة و البسيطة فأصبح بذلك هناك واقع سوداني و مسار تاريخي لطبيعة الاحداث التي يمكن مشاهدتها من خلال سياق ما يسمى السودان .
يطرح كل مجتمع تناقضاته وإشكالياته عبر مؤسساته سواء السياسية او الاجتماعية او الإعلامية وتبرز على السطح في شكل أنشطة سينمائية او حراك سياسي او في صورة نظريات وأفكار ومؤسسات كذلك من خلالها يمكن فهم طبيعة هذه المشاكل ونشاهد طرق حلها او توليد متناقضات جديدة تأتي من خلال الوصول الى رؤية جديدة ، بطريقة ما تتأثر هذه العملية بمؤثرات عديدة وتأثر وتؤثر عليها لست معني بالتطرق لها هنا ولكن هي بالتأكيد يمكن مشاهدتها كعامل من العوامل التي يمكن وضعها في الحسبان وخصوصا اننا امام مستويات عديدة من التعقيدات في عصر اصبح التأثير فيه مبهم للجميع .
في ظل هذه التعقيد الذي بدأ مبكرا منذ صراع الحضارات و تشكل الدولة ونشوء الاستعمار أصبحت موازين القوى لا تعتمد على الواقع الفيزيائي المشاهد سواء كان بنشاط عسكري او تجارة ، وانما تخلقت أنماط جديدة من التأثير صحبت النقلة التكنولوجية التي اجتاحت العالم مع ظهور الانترنت ، وهذا ما يمكن قراءته من خلال حركة العمل السياسي / النشاط السياسي للحراك في السودان فمع ظهور الحركة الوطنية في ثلاثينيات القرن العشرين ، و التي خاضت تجربة ضد الاستعمار كان النشاط متأثرا حينها بالحركة الطلابية و انتقال الطلاب الى مصر من اجل التعليم التي كانت فيها المؤسسات السياسية الحديثة اكثر رسوخا وتمرسا مما تشكلت طرق على هذا الأساس نجد تأثرها بواقع الحركة السياسية المصرية .
على العكس تماما مثلا اذا قارنا شكل التأثر بالحراك السياسي الذي صاحب نشاط ثورة (ديسمبر 2018 ) نجد ان النشاط السياسي قد تغير بواقع عوامل عديدة ولكن اهم ما يميزه هو شكل التأثر بما حدث في الربيع العربي وخلال الثورة المصرية التي اشبه ما يكون الى انها اثرت على الحراك السياسي في السودان من خلال تكتيكات العمل و اليات التواصل الجماهيري وشكل الحراك عموما وان كانت هناك اختلافات جوهرية بين الثورتين الا أن اختلاف الشكل السياسي قد تغير بالنسبة للسودان وهذا مفهوم ضمن السياقات التاريخية و الاجتماعية وليس بالأمر الغريب .
ولكن الغريب الذي يدعو للتساؤل هو شكل المعرفة التي تم انتاجها و المؤسسات التي من خلالها يعبر السودانيون عن هذه التناقضات ، فإذا اعتمدنا على شكل المعارف و المؤسسات التي تنتج المعرفة نشاهد أن النموذج لهذه المؤسسات ما زال قابع في لحظة تاريخية تكاد تكون مفارقة للواقع الاجتماعي و السياسي ، فاللحظة التاريخية بالنسبة للمجتمع السوداني يتطلب نموذج معرفي متقدم يستوعب التناقضات المتراكمة منذ دخول السودان الى حقل كلية واحد يجمع شتات هذه المجتمعات والذي بدأ مع سقوط سنار في عام (1821م ) .
المشاهد للتاريخ يرى ان ما قبل لحظة سقوط سنار لم تكن هناك مؤسسات لإنتاج المعرفة بصورتها التي تسمح بتشكيل مخيلة جماعية مشتركة عبرها ترتبط مع نسق سلطة ،وانما كانت المعرفة متناثرة وذات طبيعة عشوائية سواء معرفة بتاريخ او سرديات للمجتمعات القبلية وهنا بالتأكيد لا اقلل من شأن هذه المعرفة او استبعدها عن التأثير ولكنها معرفة لم تكن ذات طبيعة كلية ، وانما متماهية مع نمط شكل البنى الاجتماعية حينها ، فسنار لم تكن سوى مملكة تحكمها اسرة واحدة داخلة في تحالف مع العبدلاب الذين كانوا مجموعة من التحالفات القبلية وكذلك هو الحال في ممالك دارفور و كردفان وتقلي و المسبعات .
وحتى الانقلاب الذي شهدت معه مؤسسات مثل السوق و شكل الحكم و المؤسسات الدينية لم يشهد تطورا في اشكال المعرفة التي شهدت ظهور مؤسسات تعليمية مرتبطة مع نمط التدين الاجتماعي الذي انتشر في مناطق مختلفة ويعود ظهور مؤسسات تعليمية دينية الى العام (1171م ) عندما حول المانجولوك العبدلابي كنيسة دنقلا العجوز الى خلوة يتم فيها تعليم القرآن ، في هذه اللحظة يمكن القول بان هناك مؤسسة تعليمة تعطي نوع من المعرفة لمجموعة من افراد المجتمع وفي ذات الوقت مرتبطة مع السلطة بشكل ما .
لا يمكن فصل تطور المؤسسات الاقتصادية (السوق ) و السلطوية عن شكل تطور المؤسسات التعليمية ،فبشكل ما التطور الذي شهده نظام الحكم في سنار بالإضافة الى توسع الطرق التجارية مع بقية العالم سمح لمجموعة مشائخ الطرق الصوفية بالتوسع في القاعدة الاجتماعية في المجتمع السناري ، فمع طرق الحج التي كانت طرق تجارية وفد العديد من المشائخ واستقروا في انحاء متفرقة من سنار بالإضافة الى ذلك وفرت لهم السلطة نوع من الامتيازات التي من خلالها تطور مؤسسة المسيد كمؤسسة ذات ثقل تعليمي واجتماعي ونالت قدر من الوضع الذي سمح لها بان تكون ذات تأثير واسع في حركة التاريخ وخصوصا الانتشار الواسع لها في افريقيا او شمالا في مصر .
بالتأكيد لعبت مصر دورا مهما في حركة المعرفة وتأثيرها داخل السودان ، بداية بالرواق السناري و الذي اظنه له تأثير كبير جدا فيما بعد مع دخول الحكم التركي ، ورواق السنارية او الرواق السناري هو جزء من أروقة الازهر الذي بناه سلطان سنار من أجل استضافة الطلاب الوافدين من سنار في مؤسسة الازهر ويستضيف الرواق مجموعة من طلاب غرب افريقيا أيضا ،ويظهر هنا شكل علاقات السلطنة السنارية مع غرب افريقيا بجانب طرق التجارة و الحج كذلك .
ظل الرواق السناري جزء من المساهمة التي توفرها المؤسسات التعليمية المصرية حتى دخول محمد علي باشا وسقوط سنار الامر الذي احدث انقلابا في شكل المؤسسات سواء السوق او السلطة السياسية او التعليمية أيضا ، فهذه المرحلة اعادت تشكيل السودان الحديث ومؤسساته كذلك ، فحركة التحديث التي قادها محمد علي في السودان كانت مهتمة ببعض الجوانب الا انها اثرت على جوانب أخرى أيضا .
قد تكون التركية من اهم اللحظات التاريخية في السياق السوداني ، وبالتأكيد هناك جدل واسع في تسمية التركية ، لان هناك سؤال يبرز بصورة كبيرة ،هل كان محمد على باشا جزء من سياقات التركية وجزء من نمط استعمارها ، أم هو استخدم التركية كغطاء لتحقيق أغراض معينة ولعب لعبة سياسية جعلته يحلم بإبراطورية خاصة في مصر و السودان ؟ ولكن معظم المؤرخين في السودان جعلوه جزء من سياقات الاستعمار التركي .
حاول محمد على الاستفادة من الإمكانيات المتوفرة في الأراضي السودانية سواء بجانب الاقتصاد او الموارد البشرية ، لذلك لم نجد تحديث في السودان على النمط المصري بكل كان تحديث من اجل أغراض محددة عبرها بدأ نمط التعليم وشكل المؤسسات التعليمية الحديثة ، على نهج الرواق السناري بدا ارسال الطلاب في مصر بالرغم من ان المصريين كانوا يرسلون الى اوربا من أجل التعليم ، ونشاهد هذه الاختلافات الواضحة في المستويات التعليمية والفوارق التي خلقها الاستعمار التركي في فتح مسارات المعرفة للسودانيين فقد حجزهم في افق التابع للنمط المصري ، وهو ما قام به رفاعة الطهطاوي عام 1853م عندما أسس مدرسة الخرطوم الحديثة ، والتي كانت من اجل تعليم (اللغة العربية ، الحساب ، القراءة ، الكتابة ) .
من هنا يمكن النظر الى حالة التعليم البدأت في السودان بالرغم من النهضة التي كانت تشهدها مصر في الجانب الحداثي وحركة التحديث الا انها ظلت جنوبا في السودان ضئيلة و هشة ، حتى ان المدرسة هذه لم تكن مدرسة لكل العامة بل كانت لابناء زعماء القبائل في دنقلا وكسلا ، أولئك الذين بمقدورهم الاستغناء عن ابناءهم لكن هناك فائض انتاج يمكنهم من تحمل أعباء الدراسة و الانفاق عليهم بالإضافة الى المكانة الاجتماعية التي كان يخلقها التعليم لهم ، فهؤلاء هم نواة العلاقة بين الحكم التركي و المجتمع السوداني .
حتى ما بين عامي (1863 -1879) بافتتاح مدارس في أقاليم مثل الشرق و سنار و بربر ودنقلا وكردفان عندما بدات حركة التعليم في نشاط وازدياد ظلت هناك فئات بعيدة عن دوائر التعليم ، الا ان الانقلاب الذي حدث في عهد الخديوي توفيق والذي على أساسه بدا نمط التعليم في التغيير بحيث نشأت المدارس الفنية و مدارس الطب و الصيدلة وكذلك بدات الارساليات التبشيرية في الانتشار داخل السودان .
من الملاحظ ان تطور التعليم كان وفق الاحتياجات التي فرضتها الإرادة التركية ، بل حتى شكل الهيكل الإداري للتعليم كان يتبع الى مصر ذلك يمكن ان نقول بان النظام التعليمي كان منفصلا عن المجتمع وعن تناقضاته التي تشكلت وفق السياق الاستعماري كما انها كانت بداية لتشكل الانفصال ما بين البنى الحديثة وما بين الجذور التي يستند اليها المجتمع في منطلقاته وقناعته وتصوراته للعالم و لذاته وان كانت هذه بداية التصدع الذي تولد عنه اخفاق لاحق لهذه المؤسسات في بناء معرفة ترتبط مع بنية المجتمع ، وهو ما أدى الى افراز لنخبة حديثة هشة و ضعيفة ولطالما كانت تابعة للبنية التقليدية من طوائف وزعامات قبلية .
حتى في المهدية التي اعادت الاعتبار الى التعليم الديني الا ان سرعان ما تلاشى ذلك بزولها ، فلم تطور أي نمط لتعليم بل ان المهدية لم تكن في تكوينها الأساسي يسمح لها ببناء تصور لاي نسق معرفي سوداني كما كانت هي حركة تحرر وطني ضد الاستعمار و التداخل ما بين التراتب الصوفي الذي يقوم على أساس مكانة المتعلم وأخذ الطريق جعل من بنيتها السلطوية لا تسمح بأفق أوسع من ذلك ، مما جعل منها اقرب الى ان تكون حركة صوفية دينية لا ابعد من ذلك ولا اكثر ، وقد اتحامل على المهدية بعض الشئ في نقدي لبنيتها ولطبيعة حركتها التي لم تكن ترتبط بتصور دنيوي أبعد من كونه ديني خالص ويظهر ذلك في طبيعة الجيش وشكل الإدارة و الى طبيعة علاقتها التجارية والنشاط الاقتصادي الذي أدى الى تفككها من الداخل بسبب أزمات الجفاف و التصحر ، وان كانت المهدية في نظري هي الإرث المقاوم ضد حركة الاستعمار الا ان جوانب القصور فيها لا يسعنا الا كشفها ليس بغرض نقدها وفق السياق الحديث الذي نعيشه ولكن وفق حركة التاريخ و السياق الاجتماعي كإرث يجب العودة اليه وبناء أفق من خلاله بعيدا عن التشوهات التي نعيشها حاليا في كل نواحي المجتمع .